على ضفاف الضوء - وهيبة قوية


يسعدني أن أعود اليوم إلى الحديث عن الكتب بفضل هذا الكتاب، كيف لا وهو الذي طال انتظاره وطالت فترة مخاضه أشهرا… بل سنوات.

أحدّثكم اليوم عن كتاب "على ضفاف الضوء" لـ وهيبة قوية وهو باكورة أعمالها الأدبية التي لن تتأخّر في الخروج إلى النور تباعا. صدر هذا الكتاب عن دار عود الندّ بلندن في أوج أزمة الكوفيد، فأطال بقاءه في غياهب الرفوف إلى اليوم ليُقدّم لكم.

شكلا، ينقسم الكتاب إلى ثلاث أقسام مبوّبة كما ذكرت تباعا في العنوان الفرعي : قراءات، نصوص، وشعر تمتدّ على 160 صفحة وشكلا أيضا لا يسعني إلاّ أن أثني على تنوّع تقنيات الكتابة في كلّ قسم ومع كل نصّ وكأنّ بالكاتبة تستعرض قوّة قلمها أو سلاسة مراوحتها بين التقنيات. فمثلا في القراءات في الأعمال الأدبية نجد التخصّص عند الحديث عن القصة أو الرواية، أو كتقديم قراءة نقدية في ديوان شعري أو كتاب تاريخي، أو أيضا كالتأريخ لسيرة ومسيرة كاتب. في النصوص وهو القسم الأحب إلى قلبي، نجد منها أصنافا متنوعة بين مقاطع روايات ونصوص وجدانيّة أو أخرى تندرج ضمن أدب الرِّحْلات. وأما الشعر، وهو أحب أساليب "الإنشاء" للكاتبة فهو يتراوح بين شعر التفعيلة والعمودي الكلاسيكي.


على ضفاف الضوء - الطبعة الأولى

لحظة، أظنّ أنّني نسيت تعريفكم بالكاتبة، دعوني أعرّفكم بها :

وهيبة قويّة هي أستاذة عربيّة تشتغل في التدريس لأكثر من ثلاثين سنة، ابنة مدينة العالية، درست في معهد الفتيات ببنزرت ثمّ إلتحقت بشعبة العربية في جامعة منّوبة. منذ سنوات طفولتها، شاركت في الحياة الثقافيّة بالعالية فكانت من الأعضاء الذين أحيوْا نادي الشعلة الأدبية (تأسّس منذ أربعينات القرن 20) بدار الثقافة بالعالية.

عادت إلى النشاط في الحياة الثقافية في بداية الألفينات من خلال مبادرات فرديّة أحيت بهم المدرسة الإعدادية بقلعة الأندلس فكانت تشارك تلامذتها في إنتاج ونشر مجلّة "فسحة الأمل" وكانت تدعوهم إلى كتابة وقراءة الشعر في فترة الإستراحة وكانت عشيّة الجمعة مخصّصة للمسرح والتمثيل.

ثمّ تطوّرت هذه الأنشطة لتشارك الكاتبة في عديد الأمسيات الثقافية سواء بالمكتبة المعلوماتية بأريانة أو بالمدرسة السليمانية أو بدار الثقافة بالوردية أو بالنادي الثقافي الطاهر الحداد وغيره من الأماكن الثقافية الأخرى لا حصر لها.

بدأت التدوين الإلكتروني في مدوّنتها الشخصية "زاوية دافئة من القلب" و مدوّنة "الركن النيّر".

في جوان 2012 أسّست مع مجموعة من شعراء تونس "نادي الشعر أبو القاسم الشابي، تونس" وعلى مدار ستّ مواسم أشرفت على ورشات كتابة الشعر وأمسيات قدّمت فيها دواوين وشعراء، ثمّ ألحقته بـ نادي "مجالس الإمتاع والمؤانسة" الذي اهتمّ بالنّصوص الوجيزة وخاصّة القصّة القصيرة جدّا والذي استضاف العديد من الضيوف كالشاعرة الفلسطينية روز شوملي والفيلسوف محمد الحسن الزوزي الشابي. 

وللأطفال حظّ أيضا، فكان نادي "فسحة الأمل" من نصيبهم منذ 2001 ثمّ صار نادي "الركن النيّر بقلعة الأندلس" زاره جمع من الشعراء وأسّس لمشروعين على مدى 3 مواسم : 1. طريق الأندلس و2. أحفاد الشابي يتغنّون بالحياة.

وكلّ هذه النوادي لها مدوّنات إلكترونية تختزن كلّ الأنشطة والنصوص وتشرف عليهم وهيبة.

نشرت وهيبة قوية العديد من النصوص في مجلات وصحف ورقية وأخرى إلكترونيّة، وما جُمع في هذا الكتاب إنّما هو  غيض من فيض. وهي تستعدّ الآن لنشر كتب أخرى وهي التي ساهمت في مراجعة العديد من الروايات والدواوين مع ناشرين من الأردن وتونس. ولا تسألوني كيف أعلم كل هذا، فهي أمي، ولو كنت قلتها لكم من البداية، لكنت اختزلت لكم هذا التقديم.


حسنا، سأخرج من جلباب أمي وأحدّثكم عن الكتاب بلغتي كما أحب وكقارئة محايدة كما تعوّدت. 

كما قلت سابقا، فالكتاب جمع نصوصا نُشرت في أوقات متفرّقة وبوّبت حسب صنفها في ثلاث أقسام، ولكن للقارئ أن يتفطّن لمحاور ثابتة تحوم حولها النصوص على اختلافها وهذا هو تقسيمي الجديد الذي أقترحه عليكم :

  1. ثنائيّة المكان والزمان 

الزمان والمكان توأمان ما إن ذُكر الأوّل إلاّ وقد حدّثنا عن الثاني. فالمكان في هذا الكتاب، وإن تنوّع، فهو ينطلق دائما من المدينة الأم "العالية" ويعود إليها. وأولى النصوص هو قراءة نقديّة في كتاب "العالية: تاريخ وآثار وحنين" للطاهر البليدي الذي ساهمت في تحقيقه ونأمل نشره ليكون ذاكرة حيّة على رفوف المكتبات. وهذا النص ما اختير عبثا ليكون فاتحة الكتاب، فهو بمثابة نقطة الانطلاق في رحلة القراءة من هذه المدينة، مسقط رأس الكاتبة. فنقرأ تحليلها لما جاء في الكتاب وإضافتها في تحليل علاقة الإنسان بالمكان وكأن بها تقول "تجهّزوا، فكلّ الكتّاب لنا مع المكان حكاية وحياة".

ومن يقف على تاريخ العالية الأندلسية سيتعمّق أكثر في النص الموالي الذي هو قراءة نقديّة في رواية تاريخية لعبد الواحد براهم "قبّة آخر الزّمان" التي تسرد أحداثا حدثت في مدينة العالية. فنجد الكاتبة تتبّع خطى البطل وتقف عند إشارات مكانية محدّدة وكأني بها تبحث عن طريقة لتشكيل صورة حيّة لمدينتها قبل مولدها بقرون.

ومدينة العالية كثيرا ما كانت حاضرة أيضا في النصوص سرّا لا علنا، ففي نص "اليوم تبدأ رحلتي" (ص110) نسافر مع الكاتبة إلى الأردن ونصعد معها جبال ساكب وقلعة صلاح الدين ونستمتع بطبيعة إربد ونسافر معها في تفاصيل رحلتها لكنّنا نجدها تتذكر مدينتها وسهولها وحقولها فيختلط المكانان ولا نعلم في أيهما معها وقد سحبتنا منهما إلى زمان آخر في مكان آخر شبيه. والمكان يعلن حضوره من خلال الأشخاص، ففي نص "موعد مع لمة تراث ورغمة" (ص126) نجد العالية حاضرة ضمنيّا أيضا من خلال الكاتبة أوّلا ثمّ من خلال الشاعر الشعبي العربي النجار أصيل مدينة العالية.

وفي القسم الثالث، يعود البوح بحب البلد علنا من خلال قصيدتين "قبلة الأشواق" و"بابنا القديم" وحتى وإن أدرجت الكاتبة، أو فلنقل الشاعرة، قصيدة تتغنى بحبّ البلاد فحب الموطن أقوى.

وأما الزمان فهو يلاحق المكان… إن استطاع! فإن كان زمن الكتابة هو الطاغي في القسم الأوّل بحكم خصوصية النصوص فهو متغيّر متحوّل متطاير لا يعترف بقواعد الفيزياء ولا العلوم في باقي الأقسام إن يكفي لحركة خفيفة ما أن تهيّج أشجان الكاتبة وتحيّر في نفسها ذكريات وتخيّلات تنقلنا بين الأزمنة.

نحن هنا، معها في الحاضر تتابع أعيينا كلماتها عن أمّها في نص "كبرتُ أمي" (ص94) فنجد أنفسنا نبحر معها إلى الماضي لنشاهدها طفلة تفرح بالآس والياسمين تقدّمه لأمها ثم تلتقط أنفاسها الرائحة الزكية في كفّي أمها بعد سنوات. أو ها نحن ننتظر معها في نصّ "نثار الذكريات" (ص104) فجرا طال صباحه لنتقلّب بين الحاضر والماضي في سيل من الذكريات. ويمكن لمرور بوطبيلة في نص "ليلة العيد" (ص100) أن يعيدنا سنوات نعيش فيها طعم العيد مع أب تمنّى امتلاك نسخة من هذا الكتاب ومرارة غيابه اليوم.

إذن، يمكن لنا من خلال هذه النصوص أن نقول إنّ الكاتبة استطاعت أن تتخلّص من قيود الزمان والمكان  فقلبت موازين العلوم وعاشت بكل شدّة زمنين (الحاضر والماضي) في نفس المكان، وكانت حاضرة في نفس اللحظة في مكانين مختلفين.


  1. ثنائيّة الظلمة والنور

تتجلّى هذه الثنائية جيّدا في نصوص القسم الثاني من الكتاب، فعلى مدى نصوص متنوعة ومقاطع من روايات تابعنا قصص انتظارات متتالية صارت إدمانا لراويتها أحيانا وصارت "سجن الأحلام" أحيانا. طيف غائب يغيب في نص فيعود بوردة وقصيدة في نص آخر. ترقص الراوية مع طيف الغائب وتحيل السواد ألوانا وتعشق في الانتظار صمتا يدوم والطيف يعود ليختفي، ويطيل الغياب ليعود. تعشق في الانتظار أملا يشعّ نوره فيضيء فضاءها وتستيقظ كل الحواسّ لتلتقط لحنا خافتا أو رائحة زهرة ما أو طعم قهوة مُشتهى… حتى يصير الانتظار حياة ثم يصير كالتنفس ضروريا وإن تلوّث بالحزن فالموت أكيد. 

انتظرنا الطيف الغائب، وانتظرنا الفجر الطويل وانتظرنا لحظة صمت ثقيلة بعد سؤال وانتظرنا فرحة لقاء مستحيل… وانتظرنا حاضر يستحيل نورا لكن حتى وإن اجتمعت النصوص على أهمية الانتظار إلا أن الأمل كان يشرق من نور الذكريات فلا نعلم إن كانت الكاتبة تحاول الهروب من واقع لم يعد يشبه ماضيها، أم أنها لم تتخلّص من ماض لا يشبه حاضرا تعيش فيه أو تنقد هذا الواقع من خلال مواجهته بالماضي سواء في نص "خبز أمي ينتخب" أو "أعود شوقا".


  1. ثنائية التنوّع والتخصّص

كما ذكرت سابقا، فالنصوص المنشورة جُمعت من مصادر متنوعة نشرت في أوقات مختلفة مما ولّد هذا التنوع في الجنس الأدبي لكل نصّ. ولوهلة، يمكن للمتطلع لفهرس الكتاب أن يستغرب من هذا "الكوكتيل" وما سبب جمعه في كتاب. فالمألوف به عادة هو نشر كتاب من جنس "الرواية" أو "الشعر" أو "نصوص نقدية" وغيرها ممّا يقترحه عليك الناشر. إلاّ أنّ هذا الاستثناء يأتي كتأكيد على أنّ لقلم الكاتبة من المرونة ما يجعله مطواعا بين يديها لا يخشى أساسيات وتقنيات كل جنس مادامت تتقنه. بل، هو يؤكّد على تخصّصها في كل ما تكتبه سواء كان شعرا أو نقدا أو أدب الرحلات، أو رواية أو غيره. ففي القراءات النقدية نجد موضوعية في الطرح لاهو بالذم ولا بالمدح. براهين دقيقة تقدّم مع كل فكرة وتدقيق مع المعاني وتناسقها. 

وفي الشعر احترام للبحور الشعرية باستثناءاتها وغنائيتها وإن كنت لا أفقه في الشعر الكثير، غير أنّ الأذن تستحسن سماع الأبيات المنشورة بلا قلق.


وهكذا، يكون هذا الكتاب منجما للاكتشاف، فهو ينطبق عليه المثل الشعبي "ذوّق وشوّق" ودّتنا فيه الكاتبة بعيّنة ممّا تكتبه وأذاقتنا روعة وبراعة قلمها، وتركتنا في اشتياق للغوض أكثر في كل جنس أدبي. فنحن حقا على ضفاف نصوص تشعّ نورا، بعضها عبر جسر النشر، وبعضها مازال. فهل سيطول بنا الانتظار للقادم؟


تعليقات

الأكثر مشاهدة

مراد الثّالث - الحبيب بولعراس

في الدّرب الطّويل – هند عزّوز

سهرت منه اللّيالي – عليّ الدّوعاجي

قصص كرتونيّة للأطفال من وحي التّراث التّونسي

جولة بين حانات البحر المتوسّط – عليّ الدّوعاجي