القاضي والبغيّ – المنّوبي زيّود

القاضي والبغيّ – المنّوبي زيّود

"القاضي والبغيّ" هي رواية للأديب والمحامي التّونسي المنّوبي زيّود، صدرت في طبعتها الأولى سنة 2018 عن دار نقوش عربيّة للنّشر وجاءت في 248 صفحة من القطع المتوسّط.

القاضي والبغيّ - الطبعة الأولى 2018

تدور أحداث هذه الرّواية ما بعد الثّورة التّونسيّة، والمعلوم أنّ زمن "ما بعد الثّورة" شهِدَ فوضى عارمة شملت كلّ البلادِ، إلاّ أنّ بطل الرّواية وهو قاضٍ في أوّل أيّام تقاعده عمّ الهدوءُ ذاته ونفسه.
"عبد الغفّار"، القاضي، قرّر مواصلة الدّراسة لنيل شهادة الدّكتوراه ببحث حول "البغاء السّريّ".
"أطروحة دكتوراه عن البغاءǃ لم لا؟ الموضوع طريف وأطرف ما فيه هو العمل الاستقصائيّ الذي تحدّث عنه أستاذه الجليل." ص35.
موضوع أحيى في "عبد الغفّار" روح الشّباب وحبّ الاطّلاع لعالمٍ خفيّ معلومٌ لراغبه. موضوع جعل القاضي، ذو المظهر الصّارم الذّي أكسبته إيّاه أيّام عمله داخل قاعات المحكمة، يزور بيت دعارة ليلتقي بصديقة طفولته "حياة". ثمّ يقرّر "عبد الغفّار" الرّحيل إلى بيت أبيه في جزيرة جربة كي يركّز كلّ اهتمامه حول بحثه بعد ملله من شجارات زوجته. في جربة، تعرّف القاضي على جاره البحّار "أحمد الشّامخ". تتوالى أيّام "عبد الغفّار" رتيبة أحيانا، بهيجة أحيانا أخرى، زارته فيها "حياة" مرّتين وحاولت من جهتها مساعدته في بحثه بشهادات حيّة من زميلاتها، حتّى حصل ما لم يكُنْ يُتوقَّع حدوثه...

القاضي والبغيّ - المنّوبي زيّود

في هذه الرّواية أشيد على جودة اللّغة التّي كُتبت بها وعلى الموضوع الجريء الذي اختار الكاتب الحديث فيه وعنه. موضوع امتاز بأصالته عند الحديث عنه وكيف أحاطه الكاتب بشبكة عديدة من المواضيع الأخرى. وبالرّغم من أنّ الكاتب لم يدخل في تفاصيل البحث الأكاديمي في مقابل تفاصيل حياة البطل، إلاّ أنّ وقوفه على عتبة معنى البغاء والبغيّ لغة واختلاف التّفاسير وسبب تذكير البغيّ لهو من الإغراء الذي لا يتقنه كلّ الأدباء بهدف شدّ القارئ أكثر لروايته. بل كذلك ابتكاره لحوار بين البطل والجاحظ يرتقي بالقارئ إلى حوار فكريّ وثقافيّ بين عقلين يتبادلان تجارب الحياة.
أيضا، وبحكم زمن الرّواية، كان من البديهيّ أن يتوقّف الكاتب عند السّياسة ليبدي رأيه في العهد السّابق والحاليّ. بل كانت تفاصيل اليوميّ تفرض على السّياسة الحضور في مواقف عديدة ومنها التّي خرجت على لسان البحّار "أحمد الشّامخ" الذي قُتل في زورقه وسط البحر لسبب غامض. يقول "أحمد الشّامخ" في الصّفحة 73:
"أنا بحّار لكنّني أحبّ وطني. عندما يسألني الضّابط عن صيد جراد البحر في غير موسمه لا أخبره عن أحد يصطاده لكن عندما يسألني عن تهريب السّلاح فإنّني لا أخفي عنه شيئا أعلمه"
فهذا الشّامخ وإن كُسرت شوكته في نهاية الرّواية ظلّ شامخا بآرائه ووطنيّته. هذا المواطن العاديّ، البحّار الذي يعمل يوميّا ليكسب قوت يومه وعياله يُقتل ربّما على أيدي مهرّبي السّلاح أو ربّما على أيدي الإخوان (الخوانجيّة كما أحبّذ واعتدتُ مُناداتهم) الآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر. "أحمد الشّامخ" مَثَّلَ "الزّوالي" التّونسيّ الذي اضطهد بعد الثّورة رغم حبّه لوطنه من قِبل أصحاب النّفوذ. يضيف الشّامخ في الصّفحة 161 قبل موته:

القاضي والبغيّ - المنّوبي زيّود

مواصلة في رمزيّة الأسماء، نتوقّف الآن عند اسم "حياة" وهي البغيّ المـُشار إليها في العنوان وصورة الغلاف. "حياة" التي جعلتها ظروف حياتها إلى امتهان هذه المهنة "غير الشّريفة" لدى البعض رغم شرعيّتها في زمن ما قبل الثّورة. "حياة" التي ساعدت صديق طفولتها، القاضي. "حياة" التّي وقفت أمام الشّيخ المتكابر لتدافع عن شغلها وزميلاتها. تقول "حياة" في الصّفحة 109:

القاضي والبغيّ - المنّوبي زيّود

"حياة" انتهى بها الأمر كالبحّار... حياةُ "حياة" توقّفت على أيدي أعداء الحياة، أعداء الحبّ، أعداء السّلام، أعداء البلاد، أعداء الصّدق، أعداء الحقيقةǃ ولئن ماتت "حياة" وبذلك إشارة إلى استولاء هؤلاء الأعداء على البلاد والعباد إلاّ أنّ هذه البغيّ تترك لكَ وصيّة في الصّفحة 229:

القاضي والبغيّ - المنّوبي زيّود

" فالغناء سرُّ الوجود" كما غنّت فيروز.
وإن كانت خسارة "عبد الغفّار" كبيرة بفقدان جاره وصديقته إلاّ أنّ مصابه أكبر في بقيّة صفحات الرّواية. وأمّا عن اختيار اسمه فله من الرّمزيّة ما يسمح لي بقول الآتي:
"من الصّعب على المجتمع التّونسيّ تقبّل البغاء في صورته التّقليديّة وتقبّله على أنّها وظيفة تُطعم أفواها جائعة رغم صعوبتها، إلاّ أنّ الرّادع الدّيني والأخلاقيّ المـُستعمل لتحريم هذه المهنة جُسّد في اختيار اسم الله 'الغفّار' من بين أسماءه التّسعة والتّسعين."
وختاما، أضيف أنّ شخصيّة "المنّوبي زيّود" بصفته محاميا تظهر جليّا في الرّواية من خلال العديد من المواقف والأقوال التي جاءت على لسان القاضي. وليت هذه الرّواية تصل إلى أيدي المسؤولين عن قوانين هذه البلاد كي يتبيّنوا ثغراتها وكي يكون القانون ملائما لشعبه لا ضاغطا عليه، ومثال ذلك حادثة القاضي مع سارق الدّجاجتين والدّيك الذي قضى عليه بسنتين سجنا وكان التّعليق في الصّفحة 52 هو رسالة الكاتب لأهل السّياسة:

القاضي والبغيّ - المنّوبي زيّود

أختمُ قائلة بأنّ هذه مجرّد قراءة أولى لهذه الرّواية الممتعة حقّا ومن الممكن لي مراجعة أخرى لهذه الرّواية أركّز فيها أكثر على رمزيّة استرجاع الماضي في حاضر ملّه التّونسيّ، قاضيا كان أم مواطنا عاديّاǃ

تعليقات

الأكثر مشاهدة

في الدّرب الطّويل – هند عزّوز

مراد الثّالث - الحبيب بولعراس

سهرت منه اللّيالي – عليّ الدّوعاجي

قصص كرتونيّة للأطفال من وحي التّراث التّونسي

جولة بين حانات البحر المتوسّط – عليّ الدّوعاجي