خربصات في أدب الرّحلة - صفيّة ڤم بن عبد الجليل

خربصات في أدب الرّحلة - صفيّة ڤم بن عبد الجليل

"خربصات في أدب الرّحلة" هي مجموعة نصوص للقاصّة والنّاقدة التّونسيّة صفيّة ڤم، نَشرتْ البعض منها في هذا الكتاب المتوسّط الحجم الذي جاء في 158 صفحة، في جزئه الأوّل، في انتظار بقيّة الأجزاء والخربصات. صدر هذا الكتاب عن دار الثّقافيّة في طبعته الأولى سنة 2017.

خربصات في أدب الرّحلة - الطبعة الأولى 2017

خَرْبَص لغة تعني، كما ذكرتها الكاتبة في المقدّمة، تمييز الأشياء بعضها عن بعض. فتكون الخَرْبصةُ تمييز بعض النّصوص في جنس معيّن عن نصوص أخرى. هذه النّصوص كانت منشورات فايسبوكيّة من وحي التّوثيق واللّحظة والفكرة أرادت بها الكاتبة مشاركة أصدقائها وقرّائها بعضا من صور الحياة في بلدان أخرى كلمة لا صورة، وشاء أن تُنشرَ ورقيّا وأن تخصّنا الكاتبة بخربصات لثلاث أماكن متباينة جغرافيّا وثقافيّا.
فأولى البُلدان كانت باريس (فرنسا) في أواخر ديسمبر 2014 وفيها حمّلت الكاتبة الجدّةُ مختلف مشاعر الحبّ الخالص الذي لا تشوبه شائبة لحفيدَيها الصّغيرين. نقلت لنا أدقّ تفاصيل يومها معهما وبثّت في صفحات الكتاب ذكرياتها، وآرائها، وأفكارها وهواجسها وهي تحاول اصطياد صورة وجهها على صفحة القنال الذي أصبح صديق غربتها. ورغم تواتر وصف الكاتبة لمناخ باريس الرّماديّ المغيّم والبارد، إلاّ أنّها في المقابل أصّرت على الإشادة بأنّ المعاملات الإنسانيّة هناك تهزم البرد وتبثّ في النّفس دفئا صار من عادات أهل هذي البلاد.
أمّا ثاني البلدان فكانت سورات (الهند) في أواخر ديسمبر 2013 وفيها صوّرت لنا الكاتبة مشاهد ما ألفناها ولا ألِفَتْها في أفلام بولييود التي لا تُظهر سوى الوجه الحسن لهذا البلد الثريّ طبيعيّا وبشريّا والفقير في بنيته التّحتيّة وحتّى التّنظيميّة. بلد، وعلى عكس سابقه، ينقلنا من قمّة النّظام والإنسانيّة إلى أسوء مظاهر المعاملات والفوضى.
وتواصلت مشاهد الفوضى في الجزء الأخير من الكتاب الـمُخصّص للحجّ إلى مكّة المكرّمة (السّعوديّة). وإن لم تذكر الكاتبة زمن أدائها لفريضة الحجّ إلاّ أنّه ومن المؤكّد، وفي ظلّ سوء المعاملة والسّكن والمرافق، كان بعد الثّورة. وأظنّ أنّه قلّما ذَكَر أحد الحجيج، ممّن عرفتهم، ظروف عيشه هناك أثناء أدائه لمناسك الحجّ مكتفيا بفرحته وحظّه الوفير لاستطاعته رؤية بيت الله متناسيا أتعاب رحلته. أمّا الكاتبة فقد شاركتنا تعبها بأسلوب خلا من التّكلّف والمبالغة، بل كان الصّبر في السّرد سلاحها في هذه الخربصات الأولى للحجّ.
تقول الكاتبة في مقدّمة كتابها إنّ هذه الخربصات "اختيار اعتباطيّ" إلاّ أنّني رأيت فيها منهجيّة وتخطيطا مُسبَقَيْن. ففي الجزء الأوَّل، فرنسا بلاد الأنوار والثّوّار، كانت مشاهد الحياة في غاية من الدّقّة والتّنظيم تعكس تطوّر مجتمع كامل. مشاهد طغت عليها طمأنينة رافقت القارئ مع صور الثّلوج وكأنّه نُقل إلى عالم سرياليّ نسجته الكاتبة بكلّ تفاصيله ورقّته. إلاّ أنّ الوقوع كان حادّا مع أوّل مغامراتها في الهند والانتقال من النّقيض إلى النّقيض. من النّظام إلى قمّة الفوضى. من الإنسانيّة إلى هدر الإنسانيّة. من احترام حقوق الإنسان مهما كانت جنسيّته، أو لونه، أو دينه، أو إعاقته… إلى إهمال أبسط الحقوق كالحقّ في السّكن. فتركيز الكاتبة على ذكْر تعايش البشر مع الكلاب السّائبة في الهند وسط أكوام القمامة مقابل ذكرها للسيّدة العجوز التي خافت على كلبها من البرد يبرز أنّ النّصوص مُنتقاة بعناية الكاتب الذّكيّ الذي يترك نصوصه بين يدي قرّائه ولهم كلّ الحرّية في التّفكير والتّمعّن فيها أو المرور عليها مرور الكرام.
وإن كان الجزء الأوّل مقارنة بين التّطوّر الايجابيّ الفرنسيّ مقابل التّطوّر السّلبي التّونسيّ، إلاّ أنّ الجزء الثّاني كان امتنانا مبطّنا لما كدنا أن نقع فيه من فوضى عارمة وتباين تامّ ومؤلم بين الطّبقات الاجتماعيّة. أمّا الجزء الثّالث فكان لوما وتقريعا للواقع المعاش الآن في تونس من إهمال وتهرّب من المسؤوليّة وسرقة علنيّة ﻷموال شعب لم يرد سوى العيش الكريم وبناء دولة نخرها الفساد سابقا والإرهاب والفساد معا حاليّا.



ختاما، ذكّرني هذا الكتاب برواية "طعام صلاة حب" للكاتبة الأمريكيّة إليزابيث جيلبرت التّي عانت اكتئابا حادّا إثر طلاقها فانطلقت تجوب البلدان وتكتب تجربتها. في إيطاليا استمتعت بمختلف الأطعمة، وفي الهند تعلّمت مبادئ الإيمان وفي بَالي وجدت الحُبّ وبالتّالي راحتها النّفسيّة. ولو قُسّمتُ الخربصات بهذا الشّكل لانقلب العنوان كالآتي "حب طعام صلاة" وهو بالضّبط يصف حالة الكاتبة التي بدأت بالطّمأنينة في أولى الخربصات لتنتهي بالتّعب والإجهاد في آخرها.

تعليقات

  1. شكرا لك سيرين على هذه القراءة، أرجو أن نسمع منك تدخلا يوم السبت القادم في صالون معابر للقراءة والكتاب في المكتبة المعلوماتية بأريانة. فمرحبا بك

    ردحذف
    الردود
    1. والشّكر لك سيّدي على تعليقك ودعوتك. سأحاول الحضور إن لم تمنعني الدّراسة من ذلك.

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة

مراد الثّالث - الحبيب بولعراس

في الدّرب الطّويل – هند عزّوز

سهرت منه اللّيالي – عليّ الدّوعاجي

قصص كرتونيّة للأطفال من وحي التّراث التّونسي

جولة بين حانات البحر المتوسّط – عليّ الدّوعاجي