هنشير اليهوديّة - عبد القادر الحاج نصر: جمعتهم الزّبالة وفرّقتهم الثّورة
هنشير اليهوديّة - عبد القادر
الحاج نصر: جمعتهم الزّبالة وفرّقتهم الثّورة
رواية "هنشير اليهوديّة" للرّوائي والقاصّ التّونسي عبد
القادر الحاج نصر صدرت في طبعتها الأولى سنة 2016 عن سوتيبا جرافيك، في حجم متوسّط
وعلى مدى 408 صفحة وتوزّعت على 8 فصول.
وقوفا على العنوان، للقارئ أن يتخيّل المكان الرّئيسي لأحداث الرّواية،
فهنشير اليهوديّة، هذا الحيّ الشّعبي في ضواحي العاصمة، له أن يوحي بأحداث عديدة
تجمع بين الواقع والخيال فما بالك وإن علمتَ أنّ الكاتب إتّخذ من مصبّ النفايات
المنتصب في هذه المنطقة نقطة إلتقاء شخصيّاته الرّئيسيّة التّي تابعها ونقل
أخبارها، تحرّكاتها وعلاقتها بهذا المكان.
وأمّا صورة الغلاف فهي تستفزّ القارئ إذ أنّها توحي بالثّورة وبالأحداث
التّي جدّت وقتها فيمكن تحديد زمن الأحداث منذ الوهلة الأولى، فالكاتب إتّخذ من
سنوات ما بعد الثّورة زمنا رئيسيّا للأحداث عائدا في بعض المواقف إلى أحداث جدّت
أيّام الثّورة.
مصبّ النّفايات بهنشير اليهوديّة كان نقطة إلتقاء شخوص الرّواية: "البرباشة".
الفتى حسن يحبّ زهور التّي ماتزال في ربيع العمر وزهور تحلم بمكان تستقرّ به بعيدا
عن الزّبالة فتقبل بالزّواج من مسعود الذّي كان قد وعد مريم بالزّواج. بهذا المشهد
افتتح الكاتب روايته مركّزا على حركات شخصيّاته في حديثها فيما بينها وفي حركات
أياديهم وأصابعهم وهي تنبش الزّبالة ممنيّة نفسها بكسب وفير. ورغم تعارض مصالحهم،
إلاّ أنّ جميعهم كانوا في انسجام إلى أن جاءت الثّورة. ولعلّه لهذا السّبب إختار
الكاتب أن يكون الحوار بينهم بالدّارجة التّونسيّة بداية ثمّ عمّمه للفصحى في باقي
الرّواية بعد الثّورة ليكون ذلك الحدّ الفاصل.
وللثّورة فضائل على قوم دون قوم، وكان مسعود من الذّين استطاعوا استغلال
الفرصة لتكوين ثروة من الثورة ودخل سوق "المنصف باي"، وهو من الأمكنة
الرّئيسية في بقيّة الرّواية، شريكا لفوزي في محلّ واستعبد زهور، زوجته التّي ما كانت
من مرتادي الزّبالة إلاّ حاجة وهربا، بالمال. وهنا تتحرّك كاميرا الكاتب من شخصيّة
لأخرى لتنقل للقارئ من خلال تحرّكات شخصيّاته، التّي حُرمت من المصبّ بعد الثّورة
لإستولاء أصحاب الأموال عليه، مدى تعاسة كلّ واحد فيهم بعد افتراقهم. ويتوغّل
الكاتب في نقل هواجس كلّ شخصيّة مستغلاّ مساحة السّرد ليطرح العديد من القضايا
الإجتماعيّة التّي تفشّت أكثر بعد الثّورة، لعلّ من أهمّها إستغلال الأطفال خاصّة
ماديّا للتسوّل أو لـ "التبربيش" في مصبّات أخرى والتّي تجسّدت في حبيب
وسامح اللّذين كانا مستأجرين من قبل مسعود أو لعرض للمفاتن كما فعلت درّة مع
السّعيد وهو أحد الشّخصيات المرمقة في البلاد. ولا يمكن للكاتب أن يمرّ من جانب
ظاهرة التطرّف الدّيني التّي انتشرت انتشار النّار في الهشيم دون أن يحرّك بعض
الخيوط السّرديّة لتشريكهم في أحداث ثانويّة.
صاحب المجموعة القصصيّة "زطلة يا تونس" لم يغفل أيضا عن
التّحدّث عن انتشار القنّب الهندي بشكل تامّ في أوساط الشّباب وتناولها من قبل
المتعلّم والجاهل ولعلّه بحادثة سامح أراد تمرير رسالة للقارئ المستهلك لهذه
النّبتة.
بل في الحقيقة كلّ الرواية هي نقل للواقع آنذاك وتصوّر للمستقبل رُسم
بحرفيّة حروف الكاتب تجعل من القارئ متشوّقا للآتي من زاوية نظر سكّان المزابل
الذين تغيّرت حياتهم بعد الثّورة كمآل مسعود الذّي "كْلاَ الدّنْيا وتْسحّر
بالآخرة"، وهو "العَرْفْ" الذي كان يهابه المستأجرون عنده، وهو
العشيق الذي أرهب النّساء اللاّتي ملأن حياته، وهو الشّريك الذي أراد الإستولاء
على كلّ شيء حبّا في الجاه وفي فرض إسمه وشخصه بعد أن جرّب السجن واحترف فرز
الزّبالة من المصبّ.
ومن القضايا المطروحة الأخرى هي قضيّة المرأة من خلال حكاية حبيبة. حبيبة
تلك التّي حملت على أكتافها قضيّة "المرأة التّونسيّة" المغتصبة،
العاملة كعاملة نظافة في محلاّت "المنصف باي" تجاهد في هذه الغابة
الضّارّة مع الآخرين كي تعيش وتعيل ابنتها. المرأة الحالمة بحبيب بين أحضانها
والتّي لم تُضع فرصة أن تعيش الحب مع حسن. المرأة ومشاغلها ومشاكلها لم تقف عند
حبيبة فقط، فزهور هي ضحيّة المعاملة السيّئة من طرف زوجة الأب والزّوج، وهي الابنة
التّي حُرمت حنان حضن أمّ الهناء، تلك العجوز التّي آوتها وقاسمتها رزقها وبيتها.
بالرّغم من أنّ زهورا كانت فائقة المحاسن
وكاملة الأوصاف حتّى كادت أن تكون تجسيدا لـ "الثّورة المنشودة"
التّي يطمح الجميع للامتلاكها، والتّي وفي النّهاية سقطت بين يدي طمّاع إستغلّ
الثّورة كي يكون "رجلا بين الرّجال".
لا شكّ أنّ أسلوبا السّرد والتّشويق لدى الكاتب كانا لهما حظّ وافر في هذه
الرّواية التّي مُلئت تفاصيلا صغيرة تمرّ عابرة بنا يوميّا دون أن نعيرها إهتماما،
لكنّ أكثر ما أعجبني فيها أنّها لم تضع، كما اعتدنا في الرّوايات الواقعيّة، صراع
الطّبقات تحت الأضواء على حساب بقيّة القضايا، بل إنّ الإنطلاق من مشاكل
"الزوّالي البرباش" والغوص فيه ونقل رأيه في الثّورة وانتظاراته منها
فهي نقطة قوّة هذه الرّواية.
هنشير اليهوديّة - الطبعة الأولى 2016 |
تعليقات
إرسال تعليق