بوذا في العالم السّفلي – جولي أوتسوكا
بوذا في العالم
السّفلي – جولي أوتسوكا
بوذا في العالم السّفلي هي رواية للأديبة الأمريكيّة ذات
الأصول اليابانيّة "جولي أوتسوكا" متحصّلة على جائزة فوكنر للرواية 2011
وجائزة فيمينا للرواية الأجنبيّة في فرنسا 2012. ترجمها إلى العربيّة أبو بكر
العيّادي، صدرت في طبعتها الأولى سنة 2016 عن دار المسكيلياني للنّشر والتّوزيع
وجاءت في 140 صفحة من القطع المتوسّط.
تعود بنا الكاتبة إلى فترة ما قبل الحرب العالميّة
الثّانية، لنسافر إلى أمريكا في قاع سفينة مع مجموعة من الفتيات، من مختلف جزر اليابان،
والكثير من الأحلام. فتيات في عمر الزّهور حالمات بزوج كما رأينه في الصّورة وكما
تخيّلنه في الرّسائل، استقرار في الطّرف الآخر من العالم وسعادة بعيدا عن حقول
الأرز والمزارع. إلاّ أنّ الحقيقة لم تكن بمثل هذه المثاليّة...
حكاية كلّ فتاة قادرة على أن تكون رواية وكتابا في حدّ
ذاتها لذلك جمعتها الكاتبة في هذا الكتاب وتحدّثت
بضمير الجمع، فبالرّغم من اختلاف حكاية كلّ واحدة منهنّ إلاّ أنها تتقاطع جميعا في
المعاناة بداية من اللّيلة الأولى، ليلة وصولهنّ إلى أمريكا وأخذهنّ عنوة
من أزواجهنّ واكتشافهنّ لمصيرهنّ "قلنا لأنفسنا لا ينبغي أن نقلق وكنّا
مخطئات" (ص20). كنّ مخطئات في تقديراتهنّ، فإذا بهنّ أمام أزواج مختلفين
عن الصّور وإذا بهنّ يجدن أنفسهنّ عاملات في حقول أمريكا الشّاسعة لدى "البيض".
وهنا لم تغفل الكاتبة عن نقل صور من العبوديّة التي قاست منها بعض الفتيات، وصور عن
رحمة الأسياد مع سعيدات الحظّـ، ربّما...
"ولادات" و"أطفال"
هما فصلان يشهد فيهما القارئ مختلف دوافع وطرق ولادة الفتيات فمنهنّ من كنّ ينتظرن
المولود ومنهنّ من لم يردنه ومنهنّ من تمنّت الإنجاب كي لا ينقطع نسل زوجها...
منهنّ من مات طفلها وهو رضيع والأخرى ماتت طفلتها مرضا ولكلّ امرأة قصّتها التي
عاشتها وحدّثتنا بها الكاتبة لنتدرّج في الزّمن والأحداث وصولا إلى الفصل الخامس
"خونة" إذ أنّ ومع تدهور الأوضاع العالميّة إبان الحرب العالميّة
الثّانية، شكّكت الحكومة الأمريكيّة في ولاء المهاجرين والمواطنين ذوي الأصول
اليابانيّة لتجبرهم على الرّحيل. وهنا أجد نفسي أقرأ فصل "آخر يوم"
بكثير من الحرقة لعلّها فاقت استياء الجيران الذين تعوّدوا على اليابانيّين ومشاركتهم
لهم في حياتهم العامّة، لأنّني وجدت نفسي أمام فصل جديد من فصول عذابات البشريّة.
صور العائلات اليابانيّة، من خلال صور نسائهنّ الرّاحلات، ذكّرتني في صور التّرحيل
الإجباريّ للمورسكيّين من الأندلس. المورسكيّون الذين خدموا أرض الأندلس وحضارتها
وكانوا جزءا لا يتجزّأ من مجتمع غلبت عليه العصبيّة للديانة المسيحيّة فنفتهم
وأبعدتهم عن ديارهم. ربّما كان اليابانيّون، في أمريكا، أكثر حظّا إذ أنّ قرار
التّرحيل جاء قبل التّنفيذ بموسم فلاحيّ تمكّن فيه المهجّرون من مواصلة نشاطهم
الفلاحيّ والتّحضير لهجرة أخرى إلى جبال ثلجيّة أو صحراء منسيّة أو أماكن أخرى لم
يعلموا عنها الكثير... إلاّ أنّ صورة إحدى العائلات الّتي فضّلت ترك كيس من الأرز
في البيت أملا في عودة قريبة ذكّرتني بمفتاح البيت الأندلسي الذي حافظت عليه أجيال
وأجيال من الأندلس أملا في العودة ذات يوم.
"كنّا نعرف أنّها فقط مسألة وقت، قبل أن يزول
كلّ أثر لوجودنا" (ص96) وكان "الاختفاء" الكليّ
لليابانيّين الذي ترك فراغا لدى جيرانهم وأطفالهم، وحتّى بعد أن عُمّرت مساكنهم
وأراضيهم من جديد من قبل الصّينيين والفليبيين إلاّ أنّ الأمريكيّين يشيدون بجودة
خدمات اليابانيّين، بنظافتهم، بجديّتهم في القيام بمختلف أعمالهم، بصمتهم الدّائم
وهدوء تصرّفاتهم... وكأنّ الفصل الأخير من هذه الرّواية والذي كان على لسان
الأجوار الأمريكان ماهو إلاّ تفسير لعنوان الرّواية. فبوذا بجميع قيمه النّبيلة
التّي جسّدها اليابانيّون خلال إقامتهم في أمريكا نزل إلى العالم السّفلي منتقلا
من هنا إلى هناك إلى اللاّمكان... فلا أحد سمع أو عرف أين استقرّ اليابانيّون بعد
ترحيلهم.
ختاما، تجدر الإشارة إلى أهمّية دور المرأة في المجتمع
اليابانيّ، فتاة كانت أو أمّا، ففي هذه الرّواية المشبعة ببطلات نساء، أو فلنقل
أنّ البطولة تقاسمنها فيما بينهنّ، نجد صورة المرأة المحافظة على هويّتها
اليابانيّة والتّمسّك بها حتى بعد سنوات من العيش بعيدا عن الوطن. صورة المرأة
المناضلة الكادحة التي تعمل ولا تفكّر سوى في العمل وفي إرضاء رب البيت كما تنصّ
عاداتهنّ. صورة الأمّ التي تكافح من أجل أطفالها وتعليمهم وتوفير كلّ مستلزماتهم
حتّى وإن كان على حساب راحتها. فأجد نفسي أمام صور لمستها سابقا في بعض كتب
الأديبة الأمريكيّة "بيرل باك" للمرأة اليابانيّة والآسيوية عموما. إنّ
هذه الرّواية ليست للقراءة، بل هي للتّأمّل في قوّة شعب صنع من الهوان والمذلّة
والدّمار قوّة ترعب عدوّ الأمس واليوم!
بوذا في العالم السّفلي - الطبعة الأولى 2016 |
تعليقات
إرسال تعليق