وطن بطعم البرتقال – نجاة إدهان
وطن بطعم البرتقال – نجاة إدهان
صدرت رواية "وطن بطعم
البرتقال" لنجاة إدهان سنة 2015 عن دار رسلان للنّشر، وهي رواية تتضمّن 166
صفحة من الحجم المتوسّط ذات.
-
يهيّئ العنوان القارئ أنّ الرّواية تروي حكاية وطن. لكن
لم بطعم البرتقال؟ فهل للوطن طعم كأن يكون لها طعم البرتقال أو الشكولا أو الحلوى؟
وما قيمة أن نتذوّق الوطن فيكون له طعم وقد تعوّدنا الحديث عن الوطن بالمشاعر؟
-
الوجه الطّفوليّ على صورة الغلاف تُربكُ أسئلة القارئ عن
المذاق وعلاقة طعم البرتقال بالوطن لتضيف سؤالا آخر: ما علاقة الطّفولة بطعم الوطن
وبطعم البرتقال؟ فهل يعني الوجه الطفولي أنّ الإنسان يبقى طفلا في وطنه؟ (الكاتبة
تعود إلى فترة الطفولة مع والدها الذّي يمثّل صورة الوطن وانتمائها إليه)
فاتح الفصول يضع القارئ في
مواجهة مباشرة مع "مَيْس" وهي البطلة التّي تواجهُ محنة موت أبيها وتصبو
لتنجح في اقتلاع فرصة العمل. هذه البطلة العاشقة لترشّف قهوتها صباحا مساء وفي
جميع حالاتها تُراقبها حروف الكاتبة في أقلّ تحرّكاتها وأهمّ هواجسها. فنجد أمامنا
امرأة يسكنها الفراغ، الخواء، الضّعف والانهيار جرّاء فقدانها لسيّد الأرض،
كما سمّته، أبيها. امرأة تُعاني من الحضور الدّائم لأبيها الميّت في ذاتها التّي
امتلأت بروحه فصارت بثقل روحين.
"ميس" هي المرأة
التّي تنضّد حروفها مع رئيس عملها تجنّبا له. هي نفسها المرأة التّي أفرغت ذات
نوبة غياب كلّ ذكرياتها مع فقيدها على أوراق ملأت بها صندوقا سلّمته لأحد باعة
الكتب يوما. وهي أيضا، المرأة التّي نجدها عاشقة لرجل شاركها جزءا من حياتها
وذاتها وذكرياتها.
على كامل فصول الرّواية،
تواجه الشّخصية الرّئيسية "ميس" وحدها شخصيّات تظهر تباعا ما بين الحضور
والغيبة تتداعى في ذكرياتها وفي واقعها وهي شخصيّات رجاليّة فهي إذن مفردٌ تواجه
جمعا مفردة لميس علاقة بها تمثّل جزءا من شخصيّتها وحياتها وذكرياتها. وكأنّ
الكاتبة أودعت دور البطولة لـ "ميس" وتابعتها في تفاصيل حياتها دون أن
تحاول الإكثار من الأحداث. فنجد نسق الأحداث ينساب عاديّا، تقطعه من حين إلى آخر
وقفات إسترجاع تتداعى إليها الذّاكرة في مواقف تعدّدت لتواجه بيها "ميس"
تفاصيل تُكمل صورتها. وأمّا عن الأماكن فتُصبح على مدى الرّواية مألوفة للقارئ إذ
أنّها ليست كثيرة وتكرّرت كلقاءات ميس ومحمد في ركن إحدى المقاهي. فكأنّنا نعرف
هذا الرّكن كما نعرف غرفة والدها أو المطبخ حيث شربت القهوة وتركت فنجانها.
ميس وفكرة الموت:
مثّل الموت لميس سببا
مهمّا لزعزعة كيانها إذ أنّها أصبحت ممتلئة بغياب أبيها في جميع لحظات حياتها.
حتّى أنّه وبعد دفنه مباشرة أحسّت أنّ "بقاياه في غرفته أكثر حياة من
ثرثرة النّساء" (ص17). ولعلّ هذا الرّحيل أثّر فيها سلبا واعتبرت نفسها
تتقازم يوما بعد يوم حتّى تصل إلى اللاّ شيء ويضمحلّ وجودها من الوجود. ولعلّ
محاولات البطلة في التّغلّب على هذه الحالة الكئيبة من الضّياع لم تنجح عندما
قرّرت أن تعيش أن تحيا، أن تبتسم للحياة وأن تحلم! فلا طيف الغائب فارقها ولا
فارقت ريحه غرفته ولا استطاعت الابتسامة لوجوه لم تعرف سوى البؤس ولا أحلامها
استطاعت أن تمحو "برد اليتم"(ص84).
مع أنّها في بداية
الرّواية كانت تعدّ الموت صديقا حميما وزيّنته في عيني والدها إذ تقول: "الموت
هو صديقك الحميم الذي يصاحبك حتّى النّهاية" (ص16) وظنّت أنّها رغّبت
والدها في الموت فمات. بل قد صار الموت يطيعها إذ دعت على معلّمها فمات. هكذا يأخذ
الموت بعدين مختلفين في تفكيرها: موت تهوّنه على من تحبّ، تخفّف وطأته عليه وموت
لعنة تُسلّطه على العدوّ (المعلّم).
ميس والوطن:
الأب أو الوطن أو كلاهما
كانا ركيزتي حياة ميس، وعندما أصبحت يتيمة الأب، وهي يتيمة الوطن، لم يبقَ منها
شيء. فالوطن بالنّسبة إليها هو كيانها الذّي منه تستمدّ حياتها إذ تقول الكاتبة
"لا يعنيها كثيرا أن تتزيّن حين يسكنها وطنها" (ص37) ولعلّ تعلّق
البطلة بوطنها وخذلانه لها زعزع ذاتها الهشّة. فهي التّي تحب الشّمس أكثر ما إن
تشرق على وطنها، وهي التّي تغار على زهر البرتقال وتتعجّب لقطفه ولا ينتفض النّاس،
وهي التّي تتألّم لانقسام الوطن إلى وطنين "واحد نحياه وواحد نتحدّث عنه"(ص42)...
كانت مشاعر الخيبة والخذلان طاغيةً على ميس كما محمد وكأنّ الكاتبة أرادت أن تبلّغ
عن رأي الكثيرين من الذّين كانوا يأملون أن تغيّر الثّورة شيئا في هذا الوطن من
خلال عجز الأمّ أمام طلبات ابنها فكان الخذلان والأسى. فقد أرادت البطلة أن نتخلّص
من "صور السّياسيين المنتشرة" ، أن ننتفض لقطف زهر البرتقال بعد أن داس
الخونة على الياسمين، أن نحسّ بالوطن ونحبّه دائما لا عند سماع الأغاني الوطنيّة
فقط... لكنّ الواقع أنّنا "لم نأمن أيضا شرّ الهزيمة". إنّ الوطن
خذلنا وخذلناه وإنّ "الوطن لا يُفيقه الوجع ولا الغناء ولا كذب المدّعين"...(ص146)
فكانت هذه المشاعر هي كالصفعة للقارئ الذي هو جزء من هذا الواقع.
وعلى وقع هذا الخذلان كان
التّوافق بين ميس ومحمّد وقد جمعتهما مشاعر العشق ذات محبّة واجتمعا على حبّ
الوطن. تشاركا مآسيه وخيباته وخيباتهما وتقاسما خيبات أكبر من خيبات هذا الوطن
فكانت فلسطين والعراق و"أزمة العرب الغائمة" نقاط التقاء بينهما
والقهوة شاهدة على هذا. ولو أنّ خيبة محمد من هذا الوطن كانت داخل الزّنزانة، فإنّ
ميس شاركته هذا الشّعور خارجه، فالوطن أصبح زنزانة كبرى والكلّ مساجين مادام لا
يوجد من يعترف بالحريّة والكرامة ويقف الكبار خجلا أمام صور أطفال اتّخذوا من
الحجارة قذائف للدّفاع عن أرض البرتقال الحزين. (مجموعة قصصيّة لغسّان
كنفاني)
غير أنّ بعد الظّلمات لا
بدّ أن يظهر النّور، ولا بدّ للقيود أن تنكسر ولا بدّ للعشق أن يغيّر الواقع، فنجد
ذات المرأة المنكسرة في الحبّ والحياة تقول: "أحبّ أن أرى وطني عاشقا، أن
يحترف أبناؤه الحياة" (ص159)
شاعريّة السّرد بطعم القهوة:
تميّزت لغة الرّواية
بشاعريّة تمسّ القلب تتغزّل بفناجين قهوة البطلة فنجد من الأوصاف لفنجان القهوة ما
يجعله كالآدميّ في نظر صاحبته، بل وشريكها في انتصارات الوطن وخيباتها تقول فيه
الكاتبة "فنجان قهوة أميريّ"، "ابتسم لها الفنجان وهو
يقترب منها"، "يزهر فنجان قهوة غريب" و "فنجانها
يغنّي نشيد النّصر"...
لعلّ تعلّق الأب المتوفّي
للقهوة كان سببا في تعلّق ابنته ميس بها أو لعلّها المساحة التّي اختارتها الكاتبة
لتضع جزءا منها في روايتها.
كما نجد تركيزا على حاسّة
التذوّق فكأنّ الكاتبة تريد أن تخبرنا بأنّ النّصّ لا يقرأ فقط، بل يُتَذوَّقُ
أيضا من خلال لذّة رشفات القهوة التّي تُعطّرها غالبا في ثقافتنا التّونسيّة زهر
النّارنج والبرتقال، ولذّة طعم الشكولا والحلوى التّي تتذوّقها البطلة وما كان هذا
التّركيز إلاّ رسالة للقارئ ليتمسّك بالجانب الإيجابيّ حتّى وإن كان يتيم الأب
والوطن إذ تقول الكاتبة: "لا شيء فيها يحتفي بالحياة أكثر من شفتيها"
(ص81)
ختاما، أرى تركيز الكاتبة
على شخصيّات ذكوريّة أهمّها "الأب" في حياة ميس لم يكن اعتباطيّا، فالأب
كان الوطن الحامي لأبنائه وبخسرانه نخسر حياتنا، واليوم، وفي ظلّ ما نعيشه في
وطننا وأوطاننا، نكتشف بعد قراءتنا لهذه الرّواية أنّنا كلّنا يتامي الأوطان!
تعليقات
إرسال تعليق