المشعوذون – عبد الواحد براهم
المشعوذون – عبد الواحد براهم
رواية "المشعوذون" للأديب التّونسيّ عبد الواحد براهم صدرت في
طبعتها الأولى في مارس 2016 عن دار نيرفانا للنّشر. والرّواية هي مراوحة فنّيّة رائقة
بين الأزمنة ومعايشة لأحداث تاريخيّة ممزوجة مع الموروث الشّعبيّ التّونسيّ.
فالرّواية انقسمت إلى قسمين، الأوّل وهو بعنوان "الفتى في عصره"
احتوى على 12 فصلا. ولئن اختلفت الأزمنة في الفصول إلاّ أنّ ترتيبها يجعل القارئ
أمام أحداث تاريخيّة هامّة رسمت جزءا من تاريخ تونس. فالرّواية تحدّثت عن عهد
الحسين باي وفترة حكمه وخاصّة تلك التّي تميّزت بخصامه مع ابن أخيه عليّ باشا والذّي
كان منذورا للحكم من بعد عمّه إلاّ أنّ الدّسائس أبعدته عن قدره وجعلته مسجونا في
بيت رمضان باي حتّى هروبه هو وابنه يونس لفترة جعلت نيران الحقد والغضب والانتقام
تتأجّج فيهما أكثر فأكثر. ثمّ استطاع عليّ باشا افتكاك الحكم من عمّه الذّي اختبأ
في القيروان ممّا جعل الأمير يونس يحاصر البلد لسنين ثمّ يفتك بحسين باي ويقطع
رأسه ويرسله إلى أبيه. غير أنّ هذا الفعل لم يستحسنه عليّ باشا وخيّر تجهيز ابنه
الأصغر لخلافته على الابن البكر الذّي استولى عليه الشرّ والتهوّر. وكانت لهذه
المفاضلة دورا في تضخّم الانتقام والكره الذّي عُرف بهما يونس ممّا جعله يحاول
اغتيال أبيه لمرّات ثمّ هرب من القصر بعد افتضاح سريرته في الاستيلاء على الحكم.
هذه الحكاية لم يوردها الكاتب كسرد عاديّ ولم يجعل الكاتب من الرّواية تكون
ذات صبغة تاريخيّة بحتة، بل إنّه تلاعب في فصول الحكاية فراوح بين هذه الأحداث
وبين سيرة صبيّ يعيش في منزل العائلة شغوف بالعلم إذ كان هذا الصبيّ يطيل المكوث
في عليّ عمّه إبراهيم ويبدي حبّ استطلاع لكلّ الكتب المتراصّة في ذاك المكان
الضيّق. والعمّ وإن كان (قبل انقطاعه) من تلامذة الزّيتونة إلاّ أنّه لم يخفِ شغفه
وعلمه بعالم الغيبيّات و"ناس باسم الله" فكان ينصح ويداوي النّاس،
وخاصّة منهم النّساء، على مرأى من الصبيّ.
وبهذا التّمازج، يجد القارئ نفسه أمام حكاية تاريخيّة من وجهة نظر تمسّ معتقدات
المجتمع التّونسيّ وخاصّة إيمانه بالغيبيّات وبقدرات الصّالحين من أولياء الله
وكراماتهم. وقد استعان الكاتب براوٍ خفيّ رافق الأحداث قديمها وجديدها هو وصديقه،
وهما شخصيّتان سماويّتان ذاتا قدرات خارقة لما وراء الطبيعة، استطاعتا أن تساهما
في تسيير مجرى الأحداث من خلال الوسوسة للشّخصيّات. وقد نقل الكاتب تشبّث كلّ من
الحكّام ومن العامّة بالموروث الشّعبيّ وبالمعتقدات فنجد مثلا أنّ تردّد يونس
وجيوشه على اقتحام أسوار القيروان نابع من عقيدتهم بأنّ لهذه المدينة ومن مرّوا
بها كرامات ستقف ضدّهم لو هجموا عليها. وكان، حسب الرّواية، موت حامي القيروان
"بابا سعد الحمامي"، وهو رجل ذو كرامات، الفضل على يونس في مهاجمة
المدينة والقضاء على حسين باي.
ويأتي الجزء الثّاني من الرّواية وهو بعنوان "الفتى يعود إلى عصره"
وفيه نكتشف أنّ الصبيّ شبّ ونهب من العلوم ما مكّنه من بلوغ وظيفة هامّة وليؤكّد
للقارئ أنّه رغم تطوّر علومنا ومشاغلنا إلاّ أنّ العقيدة بالغيبيات لا زالت تتوارثها
الأجيال فيقول الكاتب: "لا شكّ أنّه يعلم ذلك، لكن ما عساه يقول وهو يرى
ارتداد الصّراع عن المشاغل الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة وعودته
إلى التّركيز على أوليّات حسبناها باتت من الماضي بعد أن تطوّرت الدّولة واتّخذت
شكلا عصريّا". فالعمّال الذّين يعملون لفائدة باحث الآثار في التنقيب
والمحافظة على الآثار كسّروا عن غير قصد جزءا من ضريح وليّ صالح فوجدوا ثعبانا
(وفي اعتقادهم أنّه حارس القبر) ولا مجال لإكمال أعمالهم إلاّ عن طريق تقديم قربان
للوليّ الصّالح يتمثّل في ذبح تيس أسود (وقد ذكر الكاتب أنّ في تقاليدنا ما تزال
القرابين تقدّم هكذا سواء كان تيسا أم ديكا وأنّ اللّون الأسود في الحيوانات مقترن
بالأرواح الشّريرة السّاكنة في ذلك الحيوان) ورسم يد بالدّماء على الحائط. وختم
الكاتب بحوادث تسجّل إيمان الشّعب المعاصر و"زوجة الرّئيس" بكرامات
الأولياء الصّالحين ذاكرا عددا من أسمائهم وقائلا على لسان الرّاوي اللاّ مرئيّ:
"اجتنب أنت وأصحابك مثل هذه الأحاديث فالقوم حولك لا يحتملونه ... يكرهون
استبدال خدرهم اللّذيذ وأوهامهم الباطلة بالنّظر في وجه الحقيقة السّاطعة".
من خلال هذه الرّواية وما نعايشه من بعض العادات والتّقاليد "الموسميّة"
(كعادات بعض العائلات في زيارة الأولياء الصّالحين والتّبرّك بهم خلال الاحتفال
بالزّفاف) أو "اليوميّة" (الاهتمام بما يُقال في الأبراج) أو الأحداث
العابرة (مؤخّرا حكاية الدّجّال كمال المغربي صاحب "البرّاد") يمكن لنا
أن نخرج بخلاصة مفادها أنّ الإنسان العربيّ وخاصّة التّونسيّ فإنّه يصعب عليه
التّخليّ عن الإعتقاد في الغيبيّات وتجاوز ما قد يشوّش تفكيره فكـأنّ هذه
المعتقدات تمثّل جزءا من ثقافته اليوميّة. ونظرا لارتباط هذه المعتقدات بالجانب الدّينيّ
الذّي يمثّل نقطة ضعف لدى الكثيرين، نجد أنّ "الشّعوذة" أصبحت تتّخذ أشكالا
عدّة وعصريّة تتماشى مع مشاغل التّونسيّ كـ "الشّعوذة السّياسيّة".
المشعوذون - الطبعة الأولى 2016 |
تعليقات
إرسال تعليق