فنجان الذّكريات

فنجان الذّكريات


- "عذرا، فإنّ رقم مخاطبكم غير متاح حاليّا. الرّجاء إعادة طلبكم لاحقا".
خرجتْ مسرعة من مكتبها بعد اجتماع طارئ، لم تحسب له أيّ حساب، وهي تلعن صاحبة هذا الصّوت الرّقيق الّتي تعيد على مسامعها نفس الجملة منذ ساعات. نظرت إلى ساعتها في قلق وتبيّنت أنّها لا تزال تملك حوالي ربع ساعة عن موعدها الذّي طال اشتياقها له. أشارت لسيّارة أجرة بالتوّقف، ثمّ لثانية، ولثالثة ولم يحالفها الحظّ إلاّ بعد محاولات عديدة وسباب كثير. طلبت من السّائق نقلها إلى قلب العاصمة فتأفّف ساخطا من الوجهة المقصودة ثمّ إنطلق وهو يلعن زحام عشيّة السّبت.
"الإنضباط في الوقت" كان هذا مبدؤها الذّي احترمته لسنوات في بلد لا يعير للزّمن قيمة والذّي بفضله حازت على احترام جميع زملائها الذّين يرون أنّ احترام المواعيد مهمّة صعبة التّحقيق.
إن لم يكن الزّحام شديدا فالدّقائق السّبع المتبقيّة لي ستكون كافية كي أكون أمام السّاعة المنتصبة دون كلل وسط العاصمة، ولن أحتاج سوى دقيقة لوصول المقهى المقابل لها. لكن إن حدث ما لا أتمنّاه، فسأتأخّر كثيرا. سأراهن على التأخّر المعتاد لذاك الشّقيّ فكم من مرّة يضرب لي موعدا وأظلّ أنتظره حتّى الملل. لكنّ إحساسا غريبا تملّكني منذ آخر مرّة تلاقينا فيها. إحساس يشي أنّه تغيّر، أنّه...
- "رجاء، أرجع المحطّة السّابقة لو سمحت سيّدي!"
اهتزّ السّائق الذّي كان يغيّر محطّات الرّاديو بحثا عن نغم يطرب له ثمّ رمقها بنظرة حادّة من مرآته جعلتها تعتذر وتنكمش على نفسها، ودون أن ينبس بكلمة أعاد المحطّة السّابقة.
صدفة رائعة ما يحدث معها، فهذه الأغنية تحمل معها ذكريات من الماضي. ذكرياتها مع هذا الرّجل الذّي التقته صدفة، أو بالأحرى التقطها من قارعة الطّريق صدفة ذات يوم ماطر:
كانت تكره الصّباحات الممطرة. قبل الخروج من البيت، تستعيذ بالله ثمّ تحكم غلق معطفها وتبدأ حصّة القفز في الشّارع الطّويل. حفر تزيّن وجه الطّريق الزّلق بالأوحال وهي تحاذر ألاّ تقع في إحداها. تصل إلى الشّارع الكبير فتجد جداولا من الأوساخ والفضلات السّابحة على بساط من المياه الجارية. تعبر إحدى الأودية الصّغيرة كراقصة باليه رافعة ساقيها في الهواء قدر الإمكان ثمّ تبدأ المرحلة الثّانية من المغامرات الصّباحيّة الممطرة وهي إيجاد سيّارة أجرة شاغرة. لسنوات لم تتوصّل إلى معرفة سرّ انقطاع سيّارات الأجرة في الأيّام الممطرة ولسنوات فشلت في امتلاك رخصة السّياقة.
توجّهتْ حيث تجمهر عدد من العاملين بعضهم ينتظر الحافلة وبعضهم الآخر يمنّي نفسه بسيّارة أجرة يتقاسم أجرتها مع غيره. لمحتْ غير بعيد عنها شابّا توجّه راكضا نحو المقهى المقابل له وقد خرج منه رجل يحمل كأسا بلّوريّة ملئ ثلثها قهوة. بقيت تتابع نقاش الرّجلين بعينيها النّاعستين ونسيت أنّ عليها توظيفهما لاقتناص أوّل فرصة للحصول على مقعد شاغر في سيّارة صفراء. وبينما انشغل فكرها في أفكار عديدة انتبهت لصوت منبّه سيّارة أجرة توقّفت بعيدا عن الجمع والشّاب يدعوها للصّعود معه. بقيت لثوانٍ تستوعب الأمر فنزل الشّاب من السيّارة وخاطبها:
- "ألا تريدين اللّحاق بعملك؟ أقنعتُ هذا السّائق الطّيب بإيصالي لمكان عملي، وإن أردت فيمكن أن أوصلك إلى مكان آخر تكثر فيه المواصلات غير هذا المكان".
أومأت برأسها موافقة وتبعته إلى السيّارة. جلست ساكنة في المقعد الخلفي وهي تحاول التّعرّف على ملامح هذا الشّهم الذّي أنقذ يومها من الهلاك. سمعت الرّجلين وقد انسجما في الحديث عن آخر المستجدّات في السّاحة السّياسيّة خاصّة بعد تكاثر العمليّات الإرهابيّة بالجبال والتّهديد بتنفيذها في المدن وانغمست هي في متابعة تدحرج قطرات الماء على النّافذة متوقّعة مسالكها. ثمّ صمت الرّجلان بعد أن تبيّن أنّهما ينتميان إلى حزبين متعارضين وظلّت هي تسخر من الأقدار التّي سمحت لحفنة من الأغبياء بأنّ تفرّق شعبا عُرف بتماسكه رغم اختلافاته على مدى عصور. وبينما كانت تسترجع محطّات من تاريخ هذا البلد جذبتها موسيقى عذبة وصوت يهزّ الكيان. بقيت تنصت للأغنية ثمّ احتلّتْ وجهها، غصبا عنها، إبتسامةٌ حالمة. أخذت تلاحق النّوتات الموسيقيّة ودندنت باللّحن الجميل فسمعها الشّابّ وقلّدها. خجلت أوّل الأمر ثمّ سمعت صوته يرتفع شيئا فشيئا بالغناء فشاركته فيه إلى أن ملأ الصّخب أرجاء السّيارة الصّغيرة.
-      هيّا يا راجلْ غنّي معانا ما تحْشِمْشْ منّا.
-      مهبولْ أنا باش نسمع ونغنّي للعباد هاذُمْ إلّي ما يِفْهموشْ في الفنّ؟ أنا ما نغنّي كان لصليحة ولسيدي عليّ والنّاس إلّي يعرفوا قيمة الفنّ.
ضحك الشّابّان من ردّة فعل السّائق وواصلا الغناء إلى آخر الأغنية. ثمّ فوجئا بالسّائق يغلق جهاز الرّاديو ويبدأ في غناء "ما حبّيتش وعمري ما نحبّ". استدار الشّاب للجالسة خلفه وابتسم لها فقالت له:
- "سأنزل هناك قرب وزارة السيّاحة، شكرا لك".
ودّعت فتاها المجهول وفي قلبها حسرة لأنّها لا تعرف اسمه ولا أيّة معلومة عنه تساعدها في الاتّصال به مستقبلا.
مضت أشهر على هذه الحادثة، فشلت فيها الأقدار في لمّ شمل الشّابيّن مرّة أخرى. كانت تتذكّر صوته في كلّ مرّة تستمع فيها للأغنية، وكان يتذكّر ابتسامتها كلّ مرّة يسمع فيها الأغنية... ثمّ جعلاها أغنيتهما المفضّلة لهواتفهما الجوّالة. رأفَتْ الصّدفة بحاليهما وتدخّلت، فتلاقت العيون مرّة أخرى وتبادلا الابتسامات والخفقات. تجاورا في ركن قصيّ في إحدى المقاهي المنتشرة وبدآ الحديث وكأنّهما لم يفترقا سوى لدقائق:
-      هل أطربك صوت السّائق؟
-      (ضاحكا) رجاء لا تذكّريني. المسكين كان يعتقد أنّ خامات صوته تقارب خامات صوت عليّ الرّياحي وهو في الحقيقة لا يقلّ بشاعة عن صوت من أصبحوا يعتلون مسرح قرطاج العظيم.
-      ...
-      هل لي بسؤال؟
-      تفضّل. ولي سؤال لك أيضا.
-      تفضلّي إذن.
-      ما اسمك؟
-      (مقهقها) قارئة أفكار ممتازة. أنا آدم، وأنتِ؟
-      مريم
ضحكا كثيرا يومها وتواعدا على اللّقاء دائما، فابتسمت الأقدار ورقصت الصّدفة على وقع نبضات المحبّيْن. تعدّدت لقاءاتهما في ذات المقهى وذات الرّكن، واعتاد النّادل على ضحكاتهما طيلة موعدهما واعتادت مريم على تأخرّه غير المبرّر في كلّ لقاء. كانت تعاتبه غير أنّها تنسى الأمر بسرعة وتندمج معه في اقتسام الابتسامات والأحزان. تعوّدت على متاعبه وتعوّد على أحزانها وتعوّدا على الصّراحة... أو هكذا خُيّل إليهما وإليك أيّها القارئ.
حدثَ أن انتهت صلاحيّة عقد عمل آدم فتلاقفته بفرح يدُ البطالة الّتي احتضنت العديد من الشّباب مثله، وحدث أن ارتقت مريم في عملها فأصبحت مديرة فرع لإحدى الشّركات العالميّة فكثرت اجتماعاتها ورحلاتها، وحدث أن تولّدت بين العاشقين مشاكلُ لطالما تجاوزاها في الماضي، ثمّ قرّرا الانفصال عن بعضيهما بعد أن التحمت روحاهما الطّيبان. فَسَّرَ انفصالها عنه أنّها لا تهتمّ بشابّ عاطل عن العمل مثله، وفسّرت انفصاله عنها أنّه يحتاج إلى فترة نقاهة كي يتقبّل صدمة بطالته والحقيقة، الّتي لا يعلمها غيري، أنّ نزالا حدث بين شقّ الأقدار وشقّ الصُّدَفِ ذات جلسة خمريّة فتراهنت الأقدار أن تحافظ على علاقة "آدم ومريم" بينما توعّدت الصُّدَفُ أن تكسب الرّهان وتفسد علاقة المحبين لتبرهن أنّ لا علاقة تدوم بدون تدخّل الصّدف.
عصفت الأشواق بالمرأة المحبّة ذات عشيّة سبت ممطر فقادتها نفسها الشّاردة إلى ذاك المقهى الذّي احتضنها يوما مع من خفق له قلبها، فوجدت حبيبها الهائم في قهوته وأحلامه الضّائعة يجلس بصمت قاتل في ذاك الرّكن القصيّ من المقهى. ربّما حمله الشّوق هو أيضا لذاك المكان، أو ربّما قادته الأقدار له. جلست بهدوء أمامه، طلبت قهوتها المفضّلة وأخذت تنظر إليه بصمت باكٍ. بقيا ساعة أو أكثر دون كلام سُكبت فيها الكثير من الدّموع، ثمّ تركها وحيدة... تأسّفت لحاله وتمنّت لو أنّها استطاعت الصّمود أمام غضبه كلّما ذكرت له أنّه يجب عليه مراجعة طبيب نفسانيّ إثر تدهور حالته النّفسيّة. لم يمض أسبوع واحد حتّى أرسل إليها رسالة يطلب فيها مقابلتها في ذاك المكان والزّمان المعتاديْن.
شريط من الذّكريات حملته هذه الأغنية، ولسوء حظّها فإنّ الازدحام الشّديد جعلاها تغادر سيّارة الأجرة كي لا تتأخّر أكثر عن موعدها. وعندما اقتربت من المقهى، تناولت هاتفها راجية ألا تجيبها صاحبة الصّوت الأنثويّ. وما أن ضغطت على زرّ الاتّصال، حتّى سُمِعَ دويُّ انفجار هائل داخل ذاك المقهى.
في المستشفى، وجدت مريم نفسها في غرفة شديدة البياض ومحقّق أمامها يتحدّث خلسة مع الطبيب المباشر لها، ثمّ توجّه نحوها:
-      لم كنتِ هناك عند الانفجار؟
-      آدم طلب منّي الحضور هناك.
-      وهل طلب منك ذلك مباشرة؟
-      لا، وصلتني رسالة منه قال فيها أنّه قد حسم أمر علاقتنا ويريد أن يقاسمني آخر فنجان قهوة لنا معا.
-      هل كنتِ تعلمين بانتمائه لمجموعة إرهابيّة؟
-      لا
-      (ساخرا) سأحاول تصديقك. ولمَ اتّصلتِ به؟
-      كي أعلمه أنّني وصلتُ وسأنتظره كما كنت أفعل عندما كنّا نتقابل.
-      وهل تعلمين أنّ اتّصالك هو الذّي تسبّب في انفجار الحزام؟
-      (باكية) نعم، فهذه عاشر مرّة تعيد على مسمعي نفس الكلام.
-      لكنّك كنت تعلمين أنّ هاتفه بقي مغلقا قبل موعدكما بدقائق.
-      نعم لكنّني أردت...
-      (مقاطعا) بدون ولكن! أردت التّخلّص منه قبل وصولك إلى المقهى لتنجي بنفسك. أم هل تريدين إقناعي أنّه يعلم تماما متى ستتّصلين به عند وصولك؟
-      (تبكي بشدّة) لا...
-      عندما تغادرين المستشفى سنحتجزك لتبقي على ذمّة التّحقيق إلى أن تثبت براءتك.
غادر الغرفة وتركها وحيدة ثملة بأحزانها وبذكرياتها. تناولت هاتفها وفتحت رسالة آدم: "أريد لقياك لآخر مرّة. رجاء تعالي الأسبوع المقبل إلى مكاننا المعتاد لنترشّف فنجان قهوة على إيقاع ذكرياتنا".



تعليقات

الأكثر مشاهدة

مراد الثّالث - الحبيب بولعراس

في الدّرب الطّويل – هند عزّوز

سهرت منه اللّيالي – عليّ الدّوعاجي

قصص كرتونيّة للأطفال من وحي التّراث التّونسي

جولة بين حانات البحر المتوسّط – عليّ الدّوعاجي