الغروب الخالد – حسنين بن عمّو
الغروب الخالد – حسنين بن عمّو
الغروب الخالد هي رواية تاريخيّة للرّوائي حسنين بن عمّو صدرت في 2006، حازت على الجائزة الكبرى
للرّواية التّونسيّة 2007 وحملت بين صفحاتها سيرة العلاّمة عبد الرّحمان ابن خلدون
وما لقيه من صعوبات طوال حياته.
إنّ أكثر ما تميّزت
به هذه الرّواية هو تقنية الكتابة المستعملة إذ أنّ الكاتب إختار أن يكون ناقلا
لحياة ابن خلدون على لسان هذا الأخير، فكان إستعمال ضمير الـ "أنا"
حافزا للقارئ على التّقرّب من الشّخصيّة والإسترسال في ملاحقة الأحداث التّي مرّت
بها. كما كان تردّد الحكمة على لسان المتحدّث جعلتها مستساغة بسهولة لدى المتقبّل.
تناولت الرّواية
أوّلا حال تونس زمن الدّولة الحفصيّة وتهافت أمرائها على الحكم وعلى الحالة
الإجتماعيّة للبلاد آنذاك خاصّة إنتشار مرض الطّاعون الذّي حصد أرواح عائلة
العلاّمة ولم يترك له سوى أخويه.
تبدأ المسيرة
التّرحاليّة لابن خلدون في ربيع 1352م إذ أُلقي به في الحياة العسكريّة، إثر زحْف
أبو زيد الحفصي، أمير قسنطينة، للإستيلاء على تونس لإسترداد ميراث أسرته، فهُزم
الصّف الذّي أُدرج به ابن خلدون فاستغل الفرصة وهرب حتّى وصل إلى ڤفصة التّي أقام
بها حتّى تعرّف على محمّد بن مزني الذّي صحبه معه إلى بجاية وتلمسان وبها التقيا
بالحاجب المريني محمد بن ابي عمرو.
في بجاية عكف ابن
خلدون على دراسة أسباب تزعزع السلطة الحفصيّة بإفريقيّة ودراسات أخرى حتى ّيعدّ
نفسه للسّفر إلى فاس التّي دخلها سنة 1355م فاستعمله سلطان فاس في كتاباته والتّوقيع
بين يديه ما تسبّب في تعاسة بن خلدون لأنّه لم يرتقي إلى برزخ آماله في تقلّد
وظائف أكثر جاه. وقد ركّز الكاتب على هذه النّقطة في كثير من
حياة العلاّمة تحت غطاء "طموح الشّباب".
هناك تعرّف على أمير بجاية
أبو عبد الله محمد الحفصي وحلُما معا بتوحيد المملكة إلاّ أنّ الوشاية أصابتهما
فرُمي بعبد الرّحمان في السّجن الذّي قضّى فيه أشهرا. تتوالى الأحداث ليسجن ابن
خلدون من جديد ومعه الأمير عبد الله الحفصي بدعوى
تخطيطه للفرار ليسترجع بلده. ثمّ عمل ابن خلدون كواسطة بين السّلاطين لما كان لديه
من أسلوب مقنع وحلول ترضي جميع الأطراف، إلاّ أنّه أحبّ العودة إلى تونس بعد نفور
العلاقة بينه وبين الوزير عمر بن عبد الله إلاّ أنّه أُجبر للتّوجّه إلى الأندلس
سنة 1365م لاهتمامه بهند،
الجارية الرّوميّة التّي أيعنت سنواته الثلاثين.
بعدها بسنة، كانت
المهمة المناطة بعهدة ابن خلدون هي ربط الوثاق بين كل من السّلطان ابن الأحمر
والملك بيدرو، ملك قشتالة، وأن يعزز صداقتهما لضمان أمن قشتالة ضد أعدائها من الدّاخل
والخارج.
عاد ابن خلدون إلى
غرناطة ظنّا أنّها آخر مطاف رحلته، غير أنّ إستعادة أبو عبد الله الحفصي بجاية جعله حاجبا عليها وتفرّغ لتدريس العلم
بها. إلاّ أنّ سوء الأحداث وما آلت إليه وتكاثر النّاقمين عليه جعله يلتجئ إلى ربوع
العربان فضيّق عليه أبو العبّاس، أمير قسنطينة، وقام بالقبض على أخيه يحيى ومحاصرة
أهله فلتجأ ابن خلدون إلى بسكرة.
نظراً لشبكة العلاقات
التّي نسجها مع الشيوخ ورجال الدّولة وعلى الرغم من هروبه من غوائل السّلطة، إلاّ أنّ
عبد الرحمان صار محورا للوساطة بين سلطان تونس أبو إسحاق وسلطان تلمسان ضد صاحب
قسنطينة وبجاية ابي العباس.
واصل عبد الرحمان مهمّته
في استقطاب القبائل ثم قفل راجعا إلى الأندلس ماراً بمرسى بهنين أين قُبض عليه من
قبل عبد العزيز للومه على مفارقة بلاط المريني، لكن بعد قضاء ليلة في المعتقل أطلق
سراحه فعمد إلى بلاط الوالي ابن مدين.
في بسكرة يواصل عبد
الرحمان دوره في إستمالة قبائل 'رياح' لمشايعة السّلطان عبد العزيز الشّيء إلى
أثار حسد وحنق أحمد بن يوسف بن مزني صاحب بسكرة. وعلى إثر عودة أبو حمّو لرئاسة
تلمسان من جديد، قرّر ابن خلدون العودة إلى فاس وهو ما جعل أبو حمّو يكلّف رجال
قبيلة بني يغمور للقضاء على وفد ابن خلدون فسلبوا وقتلوا منهم ومنهم من نجا بنفسه
في جبل دبدو وأدرك حينها عبد الرحمان معنى العراء في الخلاء وأصيب بداء المفاصل عن
عمر يناهز الأربعين لاعناً العربان وتمكّن بعدها من اللحاق بشمله في دبدو والسّير
إلى فاس.
في فاس، إلتقى ابن
خلدون بلسان الدّين، الذّي سُجن بعد سنتين من مكوث العلاّمة بفاس، وراسله قصد
التّوسّط له في إخراجه من السّجن، الأمر الذّي جعل ابن خلدون يلتجئ إلى الأندلس في
1377م، ثمّ إلى تلمسان ليستقرّ لمدّة أربع سنين في قلعة ابن سلامة المكان الذّي
ألهمه لكتابة تجربته وما عايشه في بلاط السّلاطين مؤسّسا بذلك علم الاجتماع وجمع
ما كتبه تحت عنوان "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيّام العرب والعجم
والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر" أو كما شُهر بــ "المقدّمة"
وهو كتابه الغنيّ عن التّعريف.
إشدّ الحنين بابن
خلدون إلى تونس، فقفل راجعا إليها، وقد بيّن الكاتب تنافس ابن عرفة مع ابن خلدون
في نيل أعلى المناصب وأرقى العلوم، إلاّ أنّ واقعة قتل الأخ الأصغر لابن خلدون
أثّرت فيه كثيرا، فانقطع عن الكتابة لمدّة طويلة ثمّ قرّر الذّهاب للحجّ.
توقّف العلاّمة بالقاهرة حيث وجد أنّ شهرته
سبقته إليها فاسبقاه السّلطان للمكوث بها، وطالت به السّنين بالقاهرة وهو عاكف على
العلم، مدرّسا في مدرسة القمحيّة وقانعا بمنصبه العلميّ. استقدم ابن خلدون عائلته
للمكوث معه إلاّ أنّهم هلكوا جميعا في البحر. وكانت تلك نكبة عبد الرّحمان الكبرى
والتّي استعجلته للحجّ.
في دمشق نزل عبد
الرحمان بالمدرسة العادلية سنة 1401م وكان تيمور لنك قد طلب لقاءه، فأراد ابن
خلدون الفرار بجلده إلاّ أنّه وقع في ايدي شاه ملك. وكانت عبقريّة العلاّمة في قلب
موازين القوى في صالحه، إذ إستنجد بعقريّته وبلاغته ليوطّد علاقته بالملك
الطّاغية.
ثمّ رجع ابن خلدون
إلى مصر ليكمل بقيّة حياته بها.
كلّ هذه المغامرات
وإستنجاد السّلاطين والأمراء بابن خلدون للتّوسّط لهم بين سلاطين آخرين ولإقناع
قبائل العربان لموالاتهم، خوف البعض منه لدهائه وحدّة ذكائه وإستئناس بعضهم به
يجعلنا ندرك يقينا قيمة مؤسّس علم الاجتماع ودوره تجاه الإنسانيّة.
وهذه اللّفتة
التّاريخيّة لأحد أعلام تونس الخالدين في الذّاكرة العالميّة بيّنت للقارئ عن مدى
الصّعوبات والعراقيل، خاصّة منها السّياسيّة، التّي تقف أمام المبدع التّونسي
سابقا ... وحتّى في عصرنا الحالي.
تعليقات
إرسال تعليق